المشاركات

الذنبُ جِبِلّة

من طبيعة بني آدم أنك لا تجد فيهم من هو في محل الوعظ والرشد على الدوام، كلنا نعظُ في أمور ونذنب في أمور أخرى، والوقوع في الذنب ليس مما يُنكر على المرء وإنما عدم محاولة النهوض هو ما يُنكر ويؤثم عليه، ومدى الوقوع هو ما نتفاوت فيه، فمنّا من يذنب الذنب صغيرًا يحسبه فتزلّ قدمه فيعاود النهوض، ومنا من يقع وقعةً تكسرُ ساقه لشدة ذنبه، فيجدّد إيمانه وينهض بالأخرى، ومنا من يكسرُ الذنب كلتا ساقيه، فيقذف الله في قلبه نور الهداية، فينهض بذلك القلب، لا بالساقين!

لا تذم طفلًا في وجهه؛ الأطفال لا ينسون!

في السابعة من عمري، وفي طريق العودة من مسجد حيّنا الذي نتدارس فيه القرآن كل غرة عصر، عائدةً برفقة أختي التي تكبرني ستة أعوام وصديقتها، وبينا نحن نمشي لمحتُ ابنة جارنا التي تصغرني سنًّا فوق سطح منزلهم غير المسوّر تركض وتلعب -وكانت قد تغيبت يومها عن المسجد- فصرختُ لأختي: "شما..شوفي نور!!" كنتُ طارحةً يدي على قلبي فزعًا؛ يخيّل إلي وقوعها من أعلى السطح، ردت أختي: "خليها تلعب شوي وبتنزل" -لِما عُرفت به نور من شقاوة-. أكملنا الطريق وإذ بصديقة أختي تشير إلي محدِّثةً أختي: "أختج حقودة.. حاسدة البنت إنها غايبة وتلعب" كنتُ طفلة، وكانت الكلمة تكبرني أعوامًا، فلم أكن أعرف معنى الحقد آنذاك إلى أني أدركتُ قبحه! أكملت الطريق وكأنّ شيئًا لم يكن، بينما ظل دويُّ هذه الكلمة في أذني.. حتى اليوم.

مما قالت العرب: "الغداءُ بالفناء"

  المروءة.. آدابٌ نفسانيَّةٌ تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسِن الأخلاق وجميل العادات، وهي كمال الرُّجولة. وقد قيل: "هي اجتناب الرجل ما يشينه"، أو كما عرّفها بعض السلف: " ألّا تعمل في السرِّ شيئًا تستحي منه في العلانية ". وقد تميزت وتفردت بها العرب بين الأمم منذ سالف الزمن، وكانت ولازالت من أبرز وأجلّ سمات الرجل العربي التي عُدت معيارًا يقيس مدى رجولته وشهامته، فبرزت جليّةً في الجاهلية؛ ودل على ذلك ما جادت به قرائح الشعراء في هذا السياق كعنترة حين أشار إلى أن إطلاق النظر من خوارم المروءة فقال:  وأغضُّ طَرفيَ إن بدتْ ليَ جارتي                                  حتى يواريَ جـارتي مـأواها وكذا نظَم عروة بن الورد بيتًا مشابهًا له: وإن جارتـي ألـوَتْ ريـاحٌ بِـبيتها                                   تغافلتُ حتى يسترَ البيتَ جانبُهْ ونشيد إلى أنّ الإسلام جاء وعزز منها ووصى بالتحلي والتطبع بها؛ ففي أسمى معانيها يتجلى ل...

الطُف بقلبك، واختلط بالناس!

  لا يروّج لحب الوحدة واعتزال الناس إلا الذين أُجبروا عليها، ولو قُدّر لهم اختيار صحبة  أو  محيط أو بيئة يختلطون بها لما ترددوا في ذلك، ظاهرة الترويج للوحدة على أنها  مطلب  للروح ومنطلق للسمو بالنفس ظاهرة لا تمت للصحة بصلة، المثالية في المشاعر كاذبة  فأنت كإنسان مهما بلغت من الصلابة والمقاومة مبلغًا لا بد وأن تتعثر، لا بد وأن  يثقل  كاهلك يومًا، لستَ مجبرًا على إظهار خلاف ما تُبطن؛ فطريق الحياةِ وعر وإدراكه  بلا  مشاقّ أمرٌ أشبه بالمستحيل، وما يعينك على تخطي هذه المشاق هو إيمانك  بالله؛  بتمهيده  وعورة طريقك.. ثم بمن هم حولك! بتربيتهم على كتفيك، بإنصاتهم  إليك،  بطمأنتهم إياك، باتخاذك أكتافهم متّكأً. فلا تغتر بزخرفة القوم للوحدة، وحدهم  من  جربوها يدركون مُر مذاقها! فالطُف بقلبك، واختلط بالناس!

أبكتني قصيدة درويش!

  أكتب؛ كي أزيح الثقل عن كاهلي، ذاك الذي يشكل انحناءةً أمقتها على ظهري. نضجتُ يا أمي لدرجة أني لم أعد أطرق الأبواب ،ولم أعد أقرع الأجراس..نضجت بطريقةٍ غريبة تجبرني على الاكتفاء واعتزال الأصدقاء وإلغاء مصطلح "مساعدة صديق" من قاموسي. كانت الأيام كفيلةً بتصحيح مفهومي للنضج فقد كنت أحسبه يكمن في القدرة على تكوين العلاقات واتخاذ القرارات المصيرية، ولكني الآن ناضجٌ بعدم مبالاتي بتلك القرارات. أخوّل أمري إلى القدر، وأدعو بالحياة السرمدية، علّ الرب يجيبني..فأحظى بها. نضجت يا أمي حين أبكتني قصيدة درويش "إلى أمي" التي لطالما أهديتها لكِ ولم تحرك فيّ شعرة، أبكتني ذات السطور التي اعتدتُ إلقائها عليك-وهذه المرة تحديداً-لأني أصبحتُ غريباً ومغترباً بل مدينة غرباء، مدينةٌ اغترب أهلها حين فقدَت ظلالَك، فالشمس لم تشرق عليهم مذ رحيلِك، والحياة فقدت لونها وبريقها، والأرضُ أصبحت مهجورة! تلك المدينة هي قلبي الذي لطالما كان يزهر بسماع صوتك، ولكنه -للأسف- نسي شكل الربيع، وألوان الزهور، ولم تعد الأرض تدور..فسكن الخريفُ قلبي للأبد. نضجتُ يا أمي لدرجة أني لم أعد أطرق الأبواب ،ولم أعد أقرع الأ...

"١٥ آذار: ذِكرى وفاة جدّي"

التنهيدة التي علقت بداخلي ولم تجد منفذاً للخروج، أكتمها بكل ما أوتيت من قوةٍ تبقّت في هذا الجسد الهزيل، بينما تصارعني هي الأخرى..رغبةً في أن أطلق سراحها، فتخرج مُحدِثةً ضجّةً عارمة. في منتصف آذار، صباح ذلك اليوم الذي لم يكن صباحاً قط، إنما كان ليلاً حالكاً أسوداً اعترى قلوبنا، جاء خبره..وأيُّ خبرٍ أسوأ من ذاك الخبر! صمَتنا فَجَعاً وعمّ الهدوء في الوقت الذي كان لابد أن نغمر الدنيا ضجيجاً، لم تستطع عقولنا إلى التصديق سبيلاً، ووددنا لو أن آذاننا أعيت عن السماع لحظتها، أتذكر شكل أمي جيداً وهي تصرخ مغلقةً فاها بكلتا يديها وقد ازداد حجمُ بؤبؤ عينيها أضعافاً: مريم..أبوي مات! وكأن جبلاً تهاوى بحنجرتي..لم أستطع النطق ببنت شفة، خِلتُ للحظةٍ أني قد ابتلعتُ لساني، أما عيناي..فشعرتُ أن حرارة هذا العالم عالقةٌ فيهما، وبالكاد أحكمتُ مقلتاي عن ذرف أطنان الدموع الهائلة. ركضتُ نحو أمي وضممتُ رأسها إلى صدري بما تبقى لدي من قوة..هي تجهشُ بالبكاء وأنا مازلتُ محكمةً عينيّ. ذهبتُ إلى فراشي..أطلقتُ عنانَ مقلتاي فبقيتُ أبكي حتى غرقتُ في النوم. استيقظتُ على الأصوات المتعالية، على الضجيج الآتي من جميع الأرجا...

روتينُ حياتك .. أمنيةٌ لغيرك

بعد يومٍ شاقّ، يرمي برأسه منهَكًا، يخطِّط للأماكن التي سيرتادها في الغد؛ باحثًا عن عمل. داعيًا بألّا يقابل الدائنَ في إحدى الطرقات، يتأملُ على مَضض. كيف سيتناولُ قلبًا ليخبر ابنته أنه لم يتمكن من توفير قسطها الجامعي؟ مما سيخضعها للانتظارِ عامًا آخر. وكيف سيخبر ابنته ذات السبعة أعوام بأنها لن تتمكن أيضًا من ارتياد المدرسة هذا العام؟ في أي ردهةٍ سيجد عملًا؟ ولأيِّ وِجهةٍ سيولّي وجهه! تتسلل إليه تعابير وجه المؤجّر الشاحبة، تقتحمُ مخيّلته، تلقي عليه لعناتٍ متتالية، فيتوقف عن التفكيرِ منصتًا لتلك اللعنات. وفي بقعةٍ أخرى من هذا العالم. تتكئ على الأريكة في غرفتك، تتصفح الرسائل والإشعارات في هاتفك، تكتب لزملاء العمل أنك قد تتغيب غدًا، ويستنكرُ أحدهم: لقد تجاوز غيابك الثلاثة أيام منذ أن بدأ الشهر و مازلنا في منتصفه! تخبره أنك إن استيقظت صباحًا وكان مزاجُك جيدًا فستذهب للعمل وإن لم يكن كذلك فستواصل نومك. تغلق الهاتف وترمي بجسدك على الفراش وتغطُّ في نومٍ عميق. يوقظك المنبه فتُصمته متأفِّفًا وتعود للغرق في النوم مجددًا. عملُك هذا الذي لا يتجاوز الثانية ظهرًا هو حلم ذاك الذي يقضي يومه وليلته باحثًا...