"١٥ آذار: ذِكرى وفاة جدّي"
التنهيدة التي علقت بداخلي ولم تجد منفذاً للخروج، أكتمها بكل ما أوتيت من قوةٍ تبقّت في هذا الجسد الهزيل، بينما تصارعني هي الأخرى..رغبةً في أن أطلق سراحها، فتخرج مُحدِثةً ضجّةً عارمة.
في منتصف آذار، صباح ذلك اليوم الذي لم يكن صباحاً قط، إنما كان ليلاً حالكاً أسوداً اعترى قلوبنا، جاء خبره..وأيُّ خبرٍ أسوأ من ذاك الخبر! صمَتنا فَجَعاً وعمّ الهدوء في الوقت الذي كان لابد أن نغمر الدنيا ضجيجاً، لم تستطع عقولنا إلى التصديق سبيلاً، ووددنا لو أن آذاننا أعيت عن السماع لحظتها، أتذكر شكل أمي جيداً وهي تصرخ مغلقةً فاها بكلتا يديها وقد ازداد حجمُ بؤبؤ عينيها أضعافاً: مريم..أبوي مات!
وكأن جبلاً تهاوى بحنجرتي..لم أستطع النطق ببنت شفة، خِلتُ للحظةٍ أني قد ابتلعتُ لساني، أما عيناي..فشعرتُ أن حرارة هذا العالم عالقةٌ فيهما، وبالكاد أحكمتُ مقلتاي عن ذرف أطنان الدموع الهائلة. ركضتُ نحو أمي وضممتُ رأسها إلى صدري بما تبقى لدي من قوة..هي تجهشُ بالبكاء وأنا مازلتُ محكمةً عينيّ.
ذهبتُ إلى فراشي..أطلقتُ عنانَ مقلتاي فبقيتُ أبكي حتى غرقتُ في النوم.
استيقظتُ على الأصوات المتعالية، على الضجيج الآتي من جميع الأرجاء، خرجتُ من غرفتي وإذ بالأهل والجيران قد ملؤوا المنزل، لا أعلم كيف كانت هيئة وجهي بعد ذلك المنام ولكن نظرات الاستغراب من حولي نوّهتني بأنه في حالةٍ يرثى لها.
واليوم، وبينما أتصفح الصور في هاتفي..صادفتُ صورتك ياجدّي، آخر صورةٍ التقطتها لك، كنتَ حينها ممداً في مجلس بيتنا تنتظرُ قدوم العشاء، وكانت تلك آخر ليلةٍ لك بيننا، إذ حزمت أمتعتك للعودة إلى الديار في صباح اليوم التالي.
أنظر إلى تلك الصورة وإلى تاريخها، يا إلهي! لقد التقطتُها في الرابع من يناير العام الماضي، ماذا لو توقف الزمن لحظتها؟ ماذا لو لم نعِش ما عشناه؟ ماذا لو لم نفقد ظلّك الذي كان يُظلنا في أسوء أيامنا؟ ولكن قدر الله وماشاء فعل.
لقد التقطتُ هذه الصورة قبل شهرين من وفاتِك، وفاتُك التي وافقت الخامس عشر من مارس عام ٢٠٢٠ ، وهذه السنة هي الذكرى الأولى حسب التقويم لوفاتك، أما أنا فأعتبرُها الذكرى الألف بعد المائة لوفاتك، فكل أوقاتي أتذكرك، وكل أيامي هي ذكراك، طِبتَ وطاب مرقدُك..ودُمتَ حيًّا في قلب حفيدتك.
تعليقات
إرسال تعليق