مما قالت العرب: "الغداءُ بالفناء"

 المروءة.. آدابٌ نفسانيَّةٌ تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسِن الأخلاق وجميل العادات، وهي كمال الرُّجولة. وقد قيل: "هي اجتناب الرجل ما يشينه"، أو كما عرّفها بعض السلف: " ألّا تعمل في السرِّ شيئًا تستحي منه في العلانية ".

وقد تميزت وتفردت بها العرب بين الأمم منذ سالف الزمن، وكانت ولازالت من أبرز وأجلّ سمات الرجل العربي التي عُدت معيارًا يقيس مدى رجولته وشهامته، فبرزت جليّةً في الجاهلية؛ ودل على ذلك ما جادت به قرائح الشعراء في هذا السياق كعنترة حين أشار إلى أن إطلاق النظر من خوارم المروءة فقال:

 وأغضُّ طَرفيَ إن بدتْ ليَ جارتي

                                 حتى يواريَ جـارتي مـأواها

وكذا نظَم عروة بن الورد بيتًا مشابهًا له:

وإن جارتـي ألـوَتْ ريـاحٌ بِـبيتها

                                  تغافلتُ حتى يسترَ البيتَ جانبُهْ

ونشيد إلى أنّ الإسلام جاء وعزز منها ووصى بالتحلي والتطبع بها؛ ففي أسمى معانيها يتجلى لنا قوله سبحانه: "وإذَا مرُّوا باللغو مرُّوا كرامًا" سورة الفرقان 72

قال ابن عاشور: إذا مرّ أهلُ المروءة على أصحاب اللغو؛ تنزهوا عن مشاركتهم، وتجاوزوا ناديهم؛ فكانوا في حال كرامة.

وإليك قول الشافعي وما أبلغه من قول! " والله لو كان الماء البارد يُنقص من مروءتي لشربته حارًا " 

فالمروءة دينٌ وخُلق وجبِلّة، إن لم تكن قد جُبلتَ عليها فتطبّع بها ما استطعت؛ وذلك بمجاورتك أربابها ومعاشرتهم فإن «من أحب قومًا فهو منهم».


وحين نطلق على أن الرجل ذو مروءة، يكون قد اكتسى وتحلى بإحدى معالمها، وأبرز هذه المعالم: الصبر والتصبّر والتجلّد، الإنصاف والكف عن المظلمة بالقول والفعل، اجتناب الغيبة وسوء الظن، الشجاعة والإقدام والإيثار، الفداء والتضحية بالمال والدم، استشعار أمانة حمل الاسم على العاتق وتجنب ما يقبّحه أو يعيبه، الإقدام على شريف الأفعال دون دنيئها، عزة النفس وعدم الهوان والضعف والذلة، التعفف عن الذنب والطلب، حفظ ماء الوجه عن كل دنيء واقتصار بذله على المعالي.

فهي باختصار: " اجتنابُ ما يكره الله والمسلمون من الفِعال، واستعمالُ ما يُحب الله والمسلمون من الخِصال "

ومن أجلّ معالم المروءةِ الرجلَ يكرمُ على غير مال، وينفق على غير سعة، ويُقدم من غير عدّة، ويعفو عند مقدرة، ويصفح عن دية.

وعلى النقيض تأتي خوارمها، وأُوجزها كالتالي: انسلاخ الهوية واضمحلال الأدب، إطلاق النظر والتصبغ بصبغة الغرب وسفاسف القوم، التقليد الأعمى وكل فعل ذميم يقلل قدر فاعله.

فنستنبط أن المروءة حمل النفس على المكارم والنبل واتّقاء نقيضهما من تردٍّ للخُلق وما يندرج تحته من رذائل.


وإني وإن أسلفت أنها من كمال الرجولة إلى أنها لا تقتصر على الرجال فحسب؛ بل هي حلةٌ كريمة تُكمل أنوثة من تحلّت بها من النساء، وقد ورد أن مسلمة بن عبد الملك قال: " ما أعان على مروءةِ المرءِ كالمرأةِ الصالحة ". وقال الشاعر:

إذا لم يكن في منـزل المرءِ حُرَّةٌ           مُدبِّرةٌ ضاعتْ مروءةُ دارهِ


وأختم بذكر أكثر تعاريف المروءة إيجازًا وبلاغةً في نظري وهو لابنِ هبيرة -أحد فقهاء الحنابلة وأشهر وزراء الدولة العباسية- حين سئل: ما المروءة؟ فقال: "إصلاح المال، والرّزانة في المجلس، والغداء والعشاء بالفناء". ويقصد بقوله "الغداء بالفناء" أن الرجل يُخرج غداء أهل بيته للفناء ليشاركه في تناوله من يشاركه؛ وهذا إن دل على شيء فقد دل على مقامٍ من الكرم والجود يلحقان ذوي المروءةِ بيضُ الأيادي.

تعليقات

  1. لله درك المدونات جميله استمري وياليت اشوف كتاب شذرات مريم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"بلادُ العُربِ أوطاني"

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾

لا تذم طفلًا في وجهه؛ الأطفال لا ينسون!